بقلم : أ. عبدالله السعدون
قصة مؤثرة سمعتها قبل أيام من أحد كبار السن، يقول: كانت جارتنا وأطفالها يتضورون جوعاً، لأنه بكل بساطة لا يوجد في البيت ما يؤكل. أرسلت الأم أكبر أبنائها إلى بيت أحد الموسرين في البلدة لعله يقرضهم ما يسدون به الجوع. طرق الطفل الباب وحين فتح له صاحب البيت أخبره بما جاء من أجله، لكن التاجر رفض طلبه، وقبل أن يغلق الباب في وجهه قال: أين الريال الذي عليكم؟ وعدتم بإحضاره قبل شهر، وأضاف: السماء لا تمطر دراهم: أحضر ما عليك أولاً، وأقفل الباب. وقف الطفل خلف الباب لعل التاجر يرق لحاله، لعله يغيّر رأيه، لكن لا شيء سوى الطفل والباب والجوع والصمت المطبق. قرر العودة إلى البيت خائباً وحزيناً، وفي الطريق صلى الظهر في أحد المساجد، وبعد الصلاة قابل شخصاً يقال له سليمان الخميس، وهو أحد كبار الفلاحين في الغاط، دعاه للقهوة وقدم له التمر، أكل حتى شبع ثم شرح له ما يمرون به من جوع، وما صادفه من إحباط، أعطاه -رحمه الله- زنبيلاً مليئاً بالقمح وهو أغلى من التمر، ثم طلب منه أن يعيد الزنبيل بعد تفريغه إلى داخل النخل القريب منهم. دخل على والدته لتفاجأ بهذا الخير غير المتوقع، وتبدأ مع الجيران بإعداد العشاء، وتوزع المسؤوليات بين الطحن وإحضار الحطب والطبخ، وفي النهاية حظيت هي وأطفالها والجيران بوجبة ساخنة افتقدوها منذ أسابيع.
ما نراه من صور العوز والجوع والبحث عن الطعام في مكب النفايات وحاويات القمامة في المجتمعات الفقيرة جرى ما هو أسوأ منه في هذه الصحاري الجرداء والجبال العارية، قصص كثيرة يتناقلها كبار السنّ عما حلّ بهم وبمن قبلهم من الجوع والحاجة، حتى أن بعضهم مات من شدة الجوع، وبعضهم خاطر بنفسه من أجل الحصول على لقمة العيش، القوي منهم هجر قريته إلى إحدى الدول المجاورة. يعمل في البناء والغوص وغيره.
في دراسة قامت بها المؤسسة العامة للحبوب تحت عنوان "خط الأساس، مؤشر الفقد والهدر في الغذاء في المملكة العربية السعودية" وجدت أن نسبة الفقد والهدر الغذائي في المملكة وصلت إلى 33 %، موزعة ما بين 14 % فقد غذائي أثناء عمليات الإنتاج والتعبئة والنقل والتوزيع، و 19 % هدر غذائي عند الاستهلاك، والقيمة الإجمالية لهذا الهدر وصلت إلى 40 مليار ريال سعودي، وتشمل الدراسة جميع مناطق المملكة، حيث تتصدر منطقة مكة المكرمة أعلى نسبة في هدر الأغذية ، وقد يكون ذلك بسبب ما يوزع مجاناً من الماء والتمور والمخبوزات على الحجاج والمعتمرين، خاصة في رمضان وموسم الحج، فما يعطى دون مقابل يكون مصير أكثره حاويات النفايات، وهذا يحتم علينا بذل جهود كثيرة لتقليل ذلك الهدر ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً. تكثيف التوعية بما يسببه الفقد والهدر للماء والغذاء من مضار دينية واقتصادية وصحية وبيئية، ونشر ذلك بكل الوسائل المتاحة، ومنها خطب الجمعة، وفي مناهج التعليم والإعلام، وفي وسائل التواصل الاجتماعي لما لها من تأثير وكثرة قراء وسرعة انتشار.
ثانياً. زرع عادة التوفير وعدم الهدر تبدأ من البيت، وما لم يره الطفل في تصرفات والديه، وتطبيقه وتكرار ذلك حتى يصبح عادة فكل ما نقوله له لن يجدي نفعاً، كما يجب أن يرى الطفل ذلك في المدرسة فلا يسرف في الماء والغذاء ولا يأخذ إلا حاجته فقط. العادات لا تزرع إلا بالتطبيق والتكرار، وليس بالقول دون تطبيق.
ثالثاً. الجمعيات الخيرية وجمعيات حفظ النعمة تقوم بجهود مشكورة في استلام الفائض من الأطعمة وإيصاله للمحتاجين، لكن ذلك يتطلب أن يبقى الطعام نظيفاً وصحياً وساخناً، وهذا يتطلب أن نتخلى عن عادة الأكل بالأيدي من صحن واحد، وبدلاً من ذلك نستخدم الحافظات، يأخذ منها الشخص ما يحتاجه دون إسراف، وهذا فيه توفير، وما يبقى يظل نظيفاً ومناسباً لتوزيعه على المحتاجين.
رابعاً. تحقيق الاستفادة القصوى من فائض الطعام غير الصالح للاستهلاك الآدمي من خلال إعادة استخدام الأغذية وتدويرها، وسرعة تطبيق فرز النفايات داخل البيوت قبل إخراجها، وتشجيع التوسع في إنشاء مصانع لهذا الغرض.
الغذاء مطلوب على مستوى العالم، وأسعاره في زيادة مستمرة، وبعض الدول ومنها الهند أوقفت تصدير القمح، خصوصاً بعد غزو روسيا لأوكرانيا، وهما من أهم الدول المصدرة للقمح. وهو ما يعني أن نكثف الجهود ونبحث عن الحلول العلمية والعملية الناجحة لوقف الفقد والهدر للماء والغذاء.